كان جبران جالسا ذات يوم في معرض أقامه لصوره يشكو إلى نفسه عدم إقبال الجمهور على شرائها
وفيما هو كذالك اقتحمت عليه عزلته سيدة رشيقة أخذت تلقي على الصور المعروضة نظرة فاحصة هنا وهناك
وحين رأى منها جبران هذا الإهتمام سألها إن كان ثمة ما يخفى عليها
فأجابت " لا أكذبك, إني في حاجة إلى من يشرح الكثير من هذه الصور التي هي من الغرابة بمكان , وما أحب إلى وأنا المولعات بالفن أن أعرف ما خفي علي منها, ترى من هو مصورها؟
فأشار جبران إلى نفسه فتقدمت إليه تعرفه باسمها وأنها تدير مدرسة مس هاسكل للبنات, وتسأله من أي بلد هو؟ فيقول " لبنان" وهنا تضيف ماري : بلد الأرز المقدس ومسرح نشيد الأنشاد؟ وأخذت تسائله عن لوحاته صورة صورة
وبدأت تقول وهي مشيرة بأصبعها إلى صورة من تلك الصور :ماذا تقول هذه الصورة؟ لقد ذهلت لتضام تلك الأجساد العارية والأسى والحزن باد على وجوهها وكأن قوة خفية تدفها إلى أعلى ثم تهوي بها إلى أسفل , ثم إذا هي قد شتت ما بينها وكأنها ماء نافورة ارتفع في الهواء, ثم ما لبث أن عاد, فانتثر على أرض الحوض قطرات
وهنا عجب جبران وقال دهشا " لست إذا في حاجة إلى تفسير , فما أردت تهذه الصورة غير أن أصور نافورة الألم
وتابعت حديثها فقالت : ولم تكثر من تصوير الأجسام العارية؟
فأجاب : لأن الحياة خلقت عارية والجسم العاري هو أصدق تعبير عن الحياة, فإذا ما رأيتني أرسم شيئا ما جبلا أو شلالا أو غير ذلك على صورة أجساد عارية فإنما أعني أني أرى كل شيئ من هذا جزءا من الحياة العارية
فسألته : ولماذا تكثر من الرمز إلى الموت والألم؟
فأجابها بأن الموت والألم هما ما خرج به إلى الدنيا ولا زالا يعيشانه حتى تلك اللحظة
فأسرعت تقول : ما أقرب ما بيننا فثمة ما يربط بيننا برباط وثيق رباط الفن ورباط الألم
ثم دعته إلى زيارتها بمدرستها على أن يقيم معرضا لصوره بها
وهناك قدمته إلى مدرسة فرنسية تدعى ميشلين على حظ كبير من الجمال
وذكرت له أن الجميع متفقون على حبها وأنها ملاكهم جمبعا
وكما أثنت ماري على ميشلين أثنت الفتاة على ماري, وشبهتها بالسنديانة يعشش الجميع من حولها على أغصانها وأنها هي الموئل الذي يفزعن إليه في مشاكلهن
وكانت ميشلين حبه الأول
وكان حبا جسديا تيم فيه بالفرنسية ميشليه التي تعلم بمدرسة ماري هاسكل التي تستأثر به روحا وفكار
ولقد ربطت العاطفة بين جبران وميشلين برباط متين عوض ما فقده في حبه العذري الروحاني لماي
وكان حبه لميشلين تجربة من نوع جديد, فعلى حين كان يخاطب في ماري رأسها, كان يخاطب في ميشلين قلبها
وكم تمنى لو أن روح ماري حلت في جسد ميشلين
إن جبران البائس النشأة كانت تنطوي نفسه على ظمأ تمنى معه لو رشف من كل إناء رشفة, ونهل من كل كأس نهلة وأن يرد كل مورد يقع عليه
وعلى حين كان يحارب الناس روح الطمع والشره ونوازع التملك, كان هو على الضد من ذلك غير قنوع ولا زاهد وحين وقع فريسة لحبيه : حبه لماري وحبه لميشليه عاش أسيرا
كم أثر الحرمان في نفس جبران وطغى على ما يمليه من رأي, فإذا ظفر بما يبغيه على أية صورة كان هذاالظفر أخذ يبرر ما بين فعله وقوله من تناقض
إقراء كذالك : تحميل كتاب "مجنون" لجبران الخليل جبران
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق